14 نوفمبر تكوير السياسة

١٤ نوفمبر .. «تكوير» السياسة

أى سلطة تحاول صياغة تصورات شعوبها وفق غاياتها وأهوائها ومصالحها، فهى السبيل لكبح جماحها والسيطرة عليها، ومن ثم الديمومة والاستمرار.. هذه الفكرة ألحت علىَّ طيلة أسابيع لدى متابعة حمى مباراة ١٤ نوفمبر بين مصر والجزائر التى صار الحديث حولها ككرة الثلج التى تتضخم كلما تدحرجت إلى الأمام حتى أصبحت جبلا لا نرى فيه سوى الغضب والتعصب والتفاهة.
ما حدث على صفحات الجرائد واستوديوهات الفضائيات إلحاح محموم على فكرة الصراع، للانشغال بما هو حاضر عما هو آت، فالسيناريوهات الغائمة الغامضة لابد أن يلازمها الإلهاء الذى يلعب على أوتار عاطفة الجماهير وسعيها الدؤوب للرحيل إلى جزر الأوهام بعيدا عن قسوة الواقع، فغضبها المكبوت قد تكون ٩٠ دقيقة كفيلة بتفريغه، فانتقادات وشتائم لحَكَم فى استاد كرة قدم أفضل كثيرا من مثيلتها الموجهة إلى حاكم أو نظام، والمطالبة بإحراز ثلاثة أهداف فى مباراة أفضل كثيرا من المجاهرة بإنجاز عدالة ومتطلبات حياة قاسية طاحنة.
لا يمكن بحال تجاهل ما يدور يوميا من حديث حول المباراة التى سيطرت على النقاش العام وتوارى وراءه كل القضايا بما فيها حادث العياط المأساوى، الشاهد على رسوب دولة وخطيئة نظام، وقضايا كبرى تتعلق بمصير وطن.
فى كتابه «سيكولوجية الشعوب المقهورة» يقول مصطفى حجازى:الجماهير فى حالة قصور واضح، فيبدو وكأن الاستكانة والمهانة هى الطبيعة الأزلية لها، وهذا ما تحاول قوى التسلط غرسه فى نفسيتها، والطريقة الكلاسيكية ليتحول المواطن إلى دجاجة مستكينة هى الإلهاء..
هذا هو الواقع فمن يرى الاستنفار المنظم والتعبئة الغاضبة يلمح الهوى فى توظيف حدث المباراة سياسيا، فرسالة الإعلام الحكومى لا تختلف عن الخاص، فالإجماع سَمْت والأجندة واحدة.. الشحن ثم الشحن ثم الشحن، ولذا تجد أوصاف المصير والتاريخ والنقطة الفاصلة ملازمة للتعليق على المباراة، فأحدهم وصفها بمباراة الحياة أو الموت وآخر عبر عنها بأنها نقطة فاصلة فى تاريخ مصر، وثالث بهدوء بال اعتبرها سبيلنا للخلاص والسعادة.
الجميع يعزف نفس اللحن، فى اتفاق قلما يحدث على حدث أو أزمة، فلا أصوات خارج هذا السياق، رئيس الجمهورية بنفسه ينزل من مقره الرئاسى ليحضر تدريبا للمنتخب قبل المباراة بساعات، ويتحدث إلى اللاعبين بنفس صيغ الحث والشحن والإشارة إلى ما يفعله الجزائريون وكأننا مقبلون على معركة حربية لا مباراة كرة قدم.
الاستراتيجية واضحة، قد تبدو على السطح محاولة لانتزاع انتصار وسط ركام الأزمات، لكن الغرض عميق المغزى هو الاستمرار فى خداع الجمهور، وهنا الانتصار والهزيمة سواء، فالانشغال والانغماس فى نتيجة اللقاء سيكون قاسما مشتركا بين الاثنين، فإذا كانوا يفرطون فى أفراحهم فإنهم أيضا علموا العالم كيف يحزن، وانظروا إلى معابدهم الفرعونية فهى شاهدة عليهم.
قد لا يرضى البعض بطرحى، وينعتنى بالغارق فى نظرية المؤامرة ولكنه اجتهاد أنتظر نقده قبل الثناء عليه، وليجبنى أى شخص عن سؤال واحد: «لماذا لم يذهب الرئيس ليواسى أسر شهداء حادث العياط أو كارثة الدويقة، وذهب ليصافح حسن شحاتة ومن معه؟!».
التوظيف السياسى للرياضة نهج اتبعته الأنظمة الشمولية على الدوام، وللتجربة العربية تفرد وريادة، وانظروا إلى الأسر الحاكمة فى المنطقة العربية، الرياضة بالنسبة لها هى الملاذ للشعبية وأيضا للخداع، فانتصارات الرياضة أسهل كثيرا من انتصارات السياسة، وفى التاريخ دلائل وإشارات لا تخطئها العقول المدركة، وإذا كان الشعب يفتقد هدفا قوميا، ومقبلا على مرحلة انتقالية، فالإيحاء لوسائل الإعلام لتمارس لعبتها القديمة هدف، حتى ولو كان العام هو ٢٠٠٩.
يا سادة حينما يسود الظلم فى أى مجتمع، تختلط المفاهيم وتغيب الأدوار وتصعد التوافه إلى قمة هرم اهتمامات الجماهير وتنتهى القضايا العامة إلى أسفله.. يا سادة لا يجدر بالإنسان أن يعيش دون مقصد أو هدف، وإذا كانت الجماهير هدفها تذكرة فى الاستاد فهنا الأزمة القصوى والهجرة إلى الماضى من أجل غايات تافهة، مجرد مباراة ستنتهى قطعا بفائز ومهزوم ولكن الأخير سينضم إلى ملايين المهزومين الذين انغمسوا فى مباراة ونسوا حريتهم، فلم يبذلوا جهدا لنصرة أنفسهم أمام حاكميهم، فباتوا كخراف تساق إلى الأضحية بلا إرادة، أو تعيش ليأتى عليها عام آخر تملأ خلاله بطونها بفضلات الحكومة من الدعم وأكذوبة الضمان الاجتماعى.
ألسنة هذه الجماهير، كما قال الشيخ الشعراوى رحمه الله، «طبقت قوانين الجد على الهزل»، تأمر فى المدرجات بالعدل والإنصاف وفى الحياة تلتمس صفات العبيد.
أيتها الجماهير المخدوعة تذكروا قول الإمام الصادق «يُوسُفُ الصِّدِّيقُ عليه السلام، لَمْ يَضُرَّ حُرِّيَّتَهُ أَنِ اسْتُعْبِدَ وَقُهِرَ وَأُسِرَ، وَلَمْ تَضُرَّهُ ظُلْمَةُ الْجُبِّ وَوَحْشَتُهُ، وَمَا نَالَهُ أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ فَجَعَلَ الْجَبَّارَ الْعَاتِى لَهُ عَبْداً، بَعْدَ إِذْ كَانَ لَهُ مَالِكاً».

جميل اوي جميل اوي

تسلم الايادي على الموضوعات الهايلة

شكرا للموضوع المهم جدا

» بعض الحب يشفيك من السياسة..الرؤساء أيـضا يحـبون
» العضوية مجانا فى اوريفليم لنهاية شهر نوفمبر 2009
» عبد الناصر وبومدين يحبطان مؤامرة إسرائيل بمباراة 14 نوفمبر