هل تبحث عن وظيفة؟!
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد..
نعم.. أكثر الناس يحرصون على الوظائف.. ويتسابقون إليها..
فما يُعلن عن وظيفة شاغرة إلا ويتسابق إليها الآلاف..
ولكن هناك وظائف شاغرة.. وظائف ربانية.. عرضها الله تعالى على العالمين... لا يوفق إليها إلا من أحب.. قال r : } إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله قبل موته.. فسأله رجل من القوم ما : استعمله يا رسول الله ؟! قال r يوفقه الله عز وجل إلى العمل الصالح قبل موته ثم يقبضه على ذلك { (1).. ولهذا.. كان الصالحون يتحسرون على فواتها..
وانظر إلى رسول الله r وهو يحدث أصحابه عن يوم القيامة... ويخبرهم.. أن من أمته سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب..
فيعجب الصحابة بهذا الفضل العظيم.. ويقفز عكاشة بن محصن t .. سريعاً.. يبادر الموقف وينتهز الفرصة قبل أن تفوت..
ويقول : ( يا رسول الله أدعْ الله ان يحعلني منهم .. قال : ( أنت منهم ).. ويفوز بها عكاشة.. ثم يغلق الباب.. ويقال لمن بعده : سبقك بها عكاشة.. نعم.. كانوا يعيشون حالة سباق في جميع أبواب الخير..
وأنت ترى نفسك لا تهشّ إلى مسابقة الأخيار في ميدان العمل الصالح.. فحاسب نفسك.. فلعل ذنوبك هي السبب..وتذكر أولئك.. الذين كرههم الله فلم يستعملهم في خير أبداً.. قال الله تعالى عن المنافقين :
﴿ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين .. ﴾
وقد اجتهدت في جمع بعض الوظائف ذات الأجور العظيمة.. ونثرتها في هذه الورقات.. فما كان فيها من صواب فهو من توفيق الله وإحسانه وفضله.. وما كان فيها من خطأ فهو من نفسي والشيطان.. وأنا تائب إلى الله ومستغفر منه.. وقابل للتنبيه والنصح.. وشاكر وداع لمن أشار ونصح..
أسأل الله أن ينفع بها المسلمين والمسلمات.. آمين ..
في مساء ليلة شاتية.. رن جرس الهاتف..
رفعت السماعة فإذا هو صوت عبد الله..
نعم.. عبد الله.. قد تخرج من الكلية في العام الماضي , وانقطعت العلاقة بيننا منذ ذلك الحين..
ما إن سمعت صوته , حتى استعادت ذاكرتي ذاك الوجه البهيّ والجسم الممتلئ
شباباً..
- حياك الله يا عبد الله.. مرحباً.. كيف حالك.. ما أخبارك.. ما..
قاطعني بصوت ضعيف :
- تذكرتني يا شيخ ؟
- نعم.. وكيف أنساك
لم يتفاعل مع عباراتي , ولم يبدُ منه تجاوب , لكنه قال بصوت ضعيف : أريدك أن تزورني في البيت.. ضروري.. هاه!.. أنا لا أستطيع زيارتك.. لا تسألني لماذا! إذا جئتني عرفت السبب!
قال هذه العبارات بصوت خافت حزين.. لكنه كان بنبرة جادة.. وصف لي طريق منزله.. طرقت الباب.. فتح لي أخوه الصغير..
- أين عبد الله؟
- عبد الله.. في المجلس.. تفضل..
مشى الصغير أمامي , وفتح باب المجلس,فلما دخلت المجلس دُهشت.. ماذا أرى!! عبد الله على سرير أبيض.. بجانبه عكاز.. وجهاز يُلبس في الرّجل لأجل المشي.. ومجموعة من الأدوية.. أما هو فجسد ملقى على السرير..
قال لي مُرحِّباً وقد حاول جاهداً أن يقف على قدميه للسلام..
- حياك الله يا شيخ.. حياك الله... كلفناك وأتعبناك..
- لا.. لم تتعبني في شيء.. عفواً لم أعلم بمرضك من قبل.. ولكن ماذا أصابك؟ ماذا حدث لك ؟ ألم تتخرج من الكلية؟ ألم تكن تحدثني أنك سوف تتزوج , وسوف.. وسوف..
- نعم , ولكن ما حدث لم يكن في حسباني..
تخرجت من الكلية قبل أشهر معدودة كما تعلم , وأصابني ما يصيب الشباب عادة من الزهو والفرح بالتخرج.. وبدأت مشوار الحياة الجديدة.. فتحت كتاب مستقبلي المزهر ورُحت استمتع بتقليب صفحاته وأحلم بأيامه السعيدة..
ومضت الأيام السعيدة سريعة.. لا يكدر صفوها إلا صداع بسيط كان ينتابني في بعض الأوقات.. ومع مضي الأيام بدأ هذا الصداع يزداد شدة وألماً.. لكن الأدوية المسكنة كانت كفيلة بالقضاء عليه.. ومضت الأيام على هذا الحال وقد تعوّد رأسي على هذا الصداع حتى صرت أنساه في كثير من الأحيان مع شدته وألمه.
لكن شدة هذا الصداع بدأت تزداد وتزداد.. وبدأ يصاحب ذلك ضعف في النظر.. حتى اشتدّ ذلك عليّ في إحدى الليالي.. فذهبت إلى قسم الطوارئ في أحد المشتسفيات.. شاكياً مما أصابني من صداع وضعف في النظر.. فلما قابلني الطبيب المختص,عمل لي التحاليل والأشعة اللازمة ,ثم قال لي :
- نحتاج إلى إجراء أشعة مقطعية دقيقة لرأسك , وهذا غير متوفر حالياً في المستشفى... اذهب إلى مستوصف خاص واعمل هذه الأشعة ثم ارجع إليّ بها.. وحاول أن يكون ذلك سريعاً!..
خرجت يتملكني الوجل تارة.. والاستغراب تارة أخرى.. هذا الطبيب! لماذا يتعبني هكذا؟ كان الأحرى أن يعطيني مسكناً للصداع.. أو قطرة للعين.. وينتهي الأمر.. وجعلت أشاور نفسي : هل أهمل الطبيب وأشعته.. وأشتري دواءً بخمسة ريالات يسكن هذا الصداع وأذهب للبيت وأنام ؟ أم أعمل الأشعة التي طلبها وأنظر على ماذا ينتهي الأمر.. لكني مع كل هذه الخواطر ذهبت إلى ذاك المستوصف وأجريت الأشعة.. ثم رجعت إلى الطبيب, أحمل بين يديّ أوراقاً لا أفهم شيئاً من رموزها..
- تفضل يا دكتور.. هذه الأشعة التي طلبت.
لبس الطبيب نظارة سميكة على عينيه.. أخذ يقلب الأوراق بين يديه.. تغير وجهه.. وسمعته يقول:لا حول ولا قوة إلا بالله.. ثم رفع بصره إليّ وقال :
- استرح.. اجلس..
- بشّر يا دكتور.. خيراً إن شاء الله؟
- خيراً.. إن شاء الله.. خيراً..
وظل صامتاً لا يرفع بصره إليّ! ثم رفع سماعة الهاتف, وبدأ بالاتصال على مجموعة من كبار الأطباء يطلب حضورهم!! ما هي إلا دقائق حتى اجتمع عنده ستة أو سبعة منهم.. بدؤوا جميعاً يقلبون نتائج التحاليل.. يتأملون صور الأشعة.. ويتحدثون باللغة الإنجليزية , ويسارقونني النظر..
مضت قرابة ساعة على هذه الحال... وأنا في حال لا أحسد عليه..
بدأ يمرّ في عقلي شريط ذكرياتي.. أخذت أستعرض سجل حياتي.. بل مستقبلي.. ترى ما بالهم يتناقشون؟ ما بال الطبيب اهتم كل هذا الاهتمام..
ثم رحت أطمئن نفسي وأقول لها:هؤلاء الأطباء يُكبرون المسائل دائماً.. كل منهم يريد أن يستعرض قواه.. تحاليل..! أشعة..! اجتماعات..! والمسألة حلها سهل:حبة أو حبتان من ال(بندول) مع قطرة للعين,وينتهي كل شيء!!
ظللت أنظر إلى الأطباء محاولاً أن أفهم شيئاً مما يقولون,ولكني مع تركيزي الشديد لم أفهم كلمة واحدة.. بدأت نقاشاتهم تهدأ وتهدأ.. ثم خيم الصمت عليهم..
خرج أحدهم من العيادة وتبعة آخر.. فثالث.. حتى لم يبق إلا اثنان..
قال لي أحدهما :
- اسمع يا عبد الله ! أنت أكبر من أن نقول لك أحضر والدك!!
- خير إن شاء الله يا دكتور.. ماذا تقصد؟!
فقال بأسلوب حازم:
- التقارير والأشعة تدل! على وجود ورم في رأسك , حجمه يزداد بسرعة مُخيفة , وهو الآن يضغط على عروق العين من الداخل , وفي أي لحظة يمكن أن يزداد هذا الضغط.. فتنفجر عروق العين من الداخل.. فتصاب بالعمى.. ثم تصاب بنزيف داخلي في الدماغ ثم تموت!!..
ثم سكت الطبيب... نعم سكت.. لكن كلمته الأخيرة بدأت تتردد في أذني.. تموت.. تموت.. يا للهول.. ما أقسى هذه الكلمة.. ما أشد وقعها على النفس.. أموت.. نعم أموت.. لكن شبابي.. رواتبي.. وظيفتي... أمي.. أبي.. أموت!!
صحت بأعلى صوتي..
يا دكتور!!.. ماذا؟.. كيف؟.. متى؟.. ورم؟.. كيف ورم؟.. متى ظهر عندي؟.. ما سببه؟.. وأنا في هذه السن؟.. أعوذ بالله؟ ورم؟.. سرطان؟.. لا حول ولا قوة إلا بالله..
- نعم , ورم.. ولا بدّ من علاجه بسرعة , كل دقيقة.. بل كل ثانية تمرّ.. ليست في صالحك.. الليلة ندخلك المستشفى ونكمل التحليلات الللازمة , وفي
الصباح – إن شاء الله – نفتح رأسك ونخرج الورم..
قال الطبيب هذه الكلمات بكل حزم.. وبرود..
قالها وهو يمسح نظارته ويقلب نظره في أوراق بين يديه..
أما أنا فلم أكن أستمع إليه بأذني فقط بل أظن أن جسدي كله قد تحول في تلك الساعة إلى أذن تسمع وتعي..
استمر الطبيب في كلامه..
- اصبر.. واحتسب.. لست الوحيد الذي تجرى له مثل هذه العملية.. أناس كثيرون أجريت لهم وشُفوا بإذن الله.. وأنت شاب مؤمن وعاقل,لا يحتاج مثلك إلى تصبير وتثبيت.. واصل الطبيب كلماته وهو ينظر إليّ.. أما أنا.. فقد كانت عيناي جاحظتين في عينيه.. نعم كنت أنظر إليه بتركيز شديد..
أما كلامه : فقد اختلطت عباراته الأخيرة بعباراته الأولى.. ولم يثبت في ذاكرتي من كلامه إلا : ورم.. سرطان.. عملية..
ماذا لو كتب الله عليّ الموت أثناء العملية؟.. ماذا ستفعل أمي؟.. أبي الذي جاوز السبعين؟.. إخواني ؟.. أخواتي الصغار؟..
بل كيف سأدخل القبر وحدي؟.. كيف سأمرّ على الصراط؟.. كيف؟ وكيف؟ أين تخطيطاتي.. وشهاداتي.. الزواج.. الوظيفة الجديدة.. كيف يحصل هذا فجأة.. أسئلة كثيرة تتردد في داخلي.. جعلتني أسبح في بحر من الأفكار لا ساحل له..
أخذت أصرخ في داخلي : يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله.. يا ليتني قدمت لحياتي الآخرة..
كل المتع التي كنت أجمعها.. والمراكز التي كنت أسعى لها.. تذهب فجأة.. هكذا بدون مقدمات.. ما أقصر هذه الحياة.. والله ما كنت إلا في غرور..
كيف كنت أتتبّع الشهوات.. وأواقع اللذات.. وجهنم قد سعرت.. والأغلال قد نصبت.. والزبانية قد أعدت؟!
تباً لهذه الدنيا.. إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً.. وإن أفرحت أياماً أحزنت أعواماً.. وإن متعت قليلاً أشقت طويلاً..
وأخذت أعاتب نفسي الخاطئة أشدّ المعاتبة..
آه.. ما أطول حزني غداً.. رحماك يا ربّ.. رحماك يا ربّ..
وفجأة قال الطبيب:
- هذه أوراق العملية ! وقع عليها,حتى نحجز لك سريراً , وننهي إجراءات إدخالك إلى المستشفى!!
بقيتُ واجماً أنظر إليه.فقال:
- خذ! ما بالك؟.. خُذ..
- لا.. لن أوقع على شيء!
- كيف؟ لن توقع !! مجنون أنت؟! المصلحة لك وليست لنا.. والمضرة عليك لا علينا.. لا تظن أننا فارغون نبحث عن رأس نتسلى بإجراء عملية فيه!!.. الأمر هام.. وخطير..
- لا.. لن أوقع على شيء..
- عموماً لا نستطيع إلزامك.. ولكن وقع على هذه الورقة حتى نخلي مسؤليتنا منك لو حدث لك نزيف مفاجئ... أخذت الورقة فإذا فيها:
أقرّ أنا الموقع أدناه أني خرجتُ بطوع إرادتي واختياري من مستشفى.. الخ..
وقعت الورقة وانصرفت..
ولكن أين أذهب...؟! إلى البيت وأخبر أمي وأبي ؟.. أم أرجع إلى المستشفى؟.. أم أذهب إلى مستشفى آخر.. لا حول ولا قوة إلا بالله..
بعد تفكير سريع قررت أن أذهب إلى مستشفى آخر..
وفي قسم الطوارئ:
- السلام عليكم.. يا دكتور أنا أشكو من صداع في الرأس يصاحبه ضعف في النظر.. وبعد الكشف السريع وعمل الأشعة اللازمة.. قال الطبيب:
- نحتاج إلى أشعة مقطعية دقيقة لرأسك , وهذا غير متوفر حالياً في المستشفى.. اذهب إلى مستوصف خاص واعمل هذه الأشعة.. ثم ارجع إليّ بها.. وحاول أن يكون ذلك سريعاً!
قالها الطبيب ثم سكت..
نزلت إلى السيارة وأخذت أوراق الأشعة ثم صعدت بها إليه ..
- عجباً!! كيف جئت بهذه السرعة !!.. لماذا لم تعمل الأشعة ؟!..
- قد عملتها قبل أن آتيك.. وها هي بين يديك..
أخذ الطبيب يفكك رموز هذه الأوراق..
أما أنا فقد جلست على الكرسي لا تكاد تحملني قدماي..
لكني كنت أكثر ثباتاً من المرة الأولى..
ذكرت الله تعالى.. سبحان الله.. والحمد لله.. ولاإله إلا الله.. والله أكبر.. أستغفر الله.. أستغفر الله.. تذكرت وصيته r لابن عمه عبد الله بن عباس: واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك, وما أخطأك لم يكن ليصيبك , واعلم أن النصر مع الصبر,وأن مع العسر يسراً.. هان الأمر عليّ.. واطمأنت نفسي..
ماذا سيحدث؟! ورم! لست الأول ولا أظنني الأخير..
أمي .. أبي.. أخوتي.. سيبكون يوماً أو يومين.. ثم ينسون..
فجأة رفع الطبيب سماعة الهاتف واستدعى مجموعة من كبار الأطباء إلى عيادته... جاءوا.. نظروا في الأوراق.. تحدثوا طويلاً..
كنت أنتظر خبراً مفزعاً..لكني لم أضطرب كثيراً.. علقت أمري بالله.. بدأت الأوهام تعود إليّ.. لماذا أنا بالذات أصاب بالمرض الخبيث؟ الناس كثيرون.. ثم صرخت بنفسي: أعوذ بالله ولماذا أجزم بذلك! لعل ذاك الطبيب قد أخطأ..
صداع عارض وينتهي الأمر..
طالت فترة الانتظار فالتفتُّ إلى الطبيب وسألته:
- هاه.. بشرّ.. ما الخبر؟!
ردّ بنبرة حازمة : انتظر قليلاً.. اصبر..
ثم تركني في دوّامتي ومضى يتلمظ بلغة أعجمية مع زملائه..
لم تمض ساعة حتى انتهوا من نقاشاتهم ثم خرج الأول فالثاني فالثالث..
التفت إليّ الطبيب ثم قال:
اسمع يا عبد الله!..
أنت شاب مؤمن وكل شيء بقضاء الله وقدره.. التقارير والأشعة تدل! على على وجود ورم في رأسك,حجمه يزداد بسرعة مخيفة,وهو الآن يضغط على عروق العين من الداخل وفي أي لحظة قد يزداد هذا الضغط.. فتنفجر عروق العين من الداخل... فتصاب بالعمى.. ثم تصاب بنزيف داخلي في الدماغ..
ثم تموت!!..
لذا لا بدّ أن تدخل الآن إلى المستشفى.. والليلة تدخل غرفة العمليات.. ونزيل جزءاً من عظم الجمجمة ثم نخرج الورم.. وبعد ذلك نعيد العظم مرة أخرى..
ثم سكت الطبيب...
أما أنا فقد كانت الصدمة عليّ أهون من الأولى.. تقبلت الخبر بهدوء تعجب منه الطبيب ثم رفعت سماعة الهاتف واتصلت بوالدي..
جاء والدي..
شيخ كبير تجاوز السبعين من العمر.. أحضره السائق.. فنظره الكليل لا يساعده على القيادة.. كم تعب واجتهد في التربية والعناية.. جزاه الله خيراً..
لما رآني أبي.. فزع من وجوم وجهي واصفرار عيني.. وقال وهو واقف :
ما الذي جاء بك إلى هنا.. ولماذا جئت.. و..
قلت له : يا أبي.. تعلم أني أشكو من صداع دائم وذهبت إلى مستشفى.. وعملوا لي الفحوصات.. ثم جئت إلى هذا المستشفى.. وبعد الفحوصات أخبروني أن عندي ورم في الرأس ولا بدّ من إجراء عملية عاجلة في الرأس..
سمع أبي هذه الكلمات فكان أقل تحملاً مني.. صاح بي:
ورم.. ورم.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. ثم جلس على الأرض.. وهو يردد:
إنا لله وإنا إليه راجعون.. إذاً نرسلك لتعالج مع أخيك في أمريكا.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. قال هذه الكلمات وهو يتذكر معاناته منذ سنة كاملة مع أخي الأكبر عبد الرحمن الذي يعالج في أمريكا من مرض السرطان..
كم رأيت أبي يبكي في الهاتف وهو يكلمه..
كم كان يدعو له آخر الليل.. وفي الصلوات.. كان حزن أبي عليه ظاهراً.. خاصة إذا رأى أولاد عبد الرحمن الصغار يسألون عن أبيهم : جدي أين بابا.. لماذا ما عندنا أب مثل بيقة بقية الأولاد..
أخذت أنظر إلى أبي ودموعه تسيل على خديه.. وهو يرى أولاده يموتون بين يديه.. فأخي خالد توفي في حادث سيارة قبل سنتين.. وأخي عبد الرحمن يصارع الموت في أمريكا.. وأنا في أول طريق لا تعرف نهايته..
التفت أبي إلى الطبيب.. وحاول أن يتجلد وهو يسأله عن خطورة المرض.. لكن عاطفة الأبوة كانت أقوى.. فبدأت الدموع تسيل من عينيه..
قال الطبيب:لا تحزن يا أبا عبد الله.. الأمر سهل إن شاء الله.. اطمئن..
قال أبي:يا دكتور.. نريد أن تعطينا الأوراق والفحوصات الخاصة بعبد الله وسوف يسافر إلى أمريكا.. يعالج هناك مع أخيه..
وافق الطبيب على ذلك.. أخذ أبي الأوراق.. وتمت الحجوزات بسرعة.. وسافرت إلى أمريكا مع أخي عبد العزيز..
وصلنا إلى المستشفى مساء.. عملوا لي التحليلات والفحوصات اللازمة..
كل شيء تم بسرعة..
وفي الصباح أدخلوني غرفة العمليات.. كم هي غرفة مفزعة.. أجهزة هنا
وهناك.. سكاكين ومقصات ومشارط.. كأني في مشرحة.
وجوه واجمة.. وأعين تنظر إليك بتلهف كأنما تريد أن تفترسك..
أيدي الأطباء تألف الدماء.. لا أتصرف في نفسي بل هم يتصرفون في كيفما شاءوا.. حملوني ( نعم حملوني حملاً ) من على السرير المتحرك إلى سرير العمليات..
بسم الله.. لا إله إلا الله.. ذكرت الله ذكراً كثيراً..
بقيت أنتظر بداية العملية.. وأتأمل في وجوه من حولي..
رفعت يدي إلى رأسي أتحسسه.. مسكين يا رأسي!!كيف سيكون حالك بعد قليل.. وقف الممرضون ينتظرون.. يظهر أن الطبيب الذي سيباشر العملية لم يصل بعد.. فجأة فتح باب غرفة العمليات ودخل رجل لا ترى منه إلا عينيه.. صافحني بلطف.. ثم أشار إلى أحدهم فجأء بإبرة كبيرة ( إي والله كبيرة ) ثم طعن بها فخذي فكان آخر عهدي بالدنيا.. دخلت في غيبوبة تامة.
حلق الطبيب شعر رأسي.. ثم قطع فروة رأسي على هيئة دائرية.. ثم بدأ ينشر عظم الجمجمة.. حتى نزع أعلاها .. ووضع العظم بجانبه.. ولم يكن حجم هذا العظم صغيراً.. كان بحجم الصحن الصغير..
ثم اخرج الورم... وكان أكبر من البيضة بقليل..
الأمور تسير على ما يرام..
وفجأة اضطرب الدم في عروق الدماغ.. ثم توقف الدم في الشرايين وأصابتني جلطة في الدماغ..
فاضرب الطبيب وحرّك – خطئاً – الأعصاب المتصلة بالمخيخ فأصابني شلل نصفي في الجزء الأيسر من جسمي..
فلما رأى الطبيب ذلك أنهى ما تبقى من العملية بسرعة.. وسارع إلى إرجاع عظم الجمجمة إلى مكانه.. وغطى بالجلد فوقه.. وخيّط المكان..
ثم حملوني من على سرير العملية وألقوني فوق السرير المتحرك.. وساقوني إلى غرفة العناية المركزة التي يسمونها غرفة ال(إن عاش)
مكثت بعد العملية في غيبوية تامة لمدة خمس ساعات..
وفجأة أصابتني جلطة في الرجل اليسرى.. فحملوني سريعاً إلى غرفة العمليات وفتحوا صدري ووضعوا لي فلتراً صغيراً على أحد شرايين القلب.. ثم أعادوني إلى غرفة ال( إن عاش ) استقرّت حالتي أربع ساعات.. ثم أصبت بنزيف شديد في الرئة..!!..
حملوني للمرة الثالثة – أو لعلها الرابعة – إلى غرفة العمليات وفتحوا صدري مرة أخرى ونظفوا الرئة من الدم.. وعالجوا النزيف.. ثم أعادوني إلى غرفة ال(إن عاش).. ضاق الطبيب بأمري ذرعاً.. أمراض متتابعة.. حالة متقلبة.. مفاجآت لا آخر لها.. استقرّت حالتي أربع وعشرين ساعة.. أحس الطبيب بشيء من الانتعاش والسرور . وفجأة بدأت حرارة جسدي ترتفع بشكل مخيف..
أجرى الطبيب فحصاً سريعاً عليّ..فاكتشف بعد الفحص الدقيق أن العظم الذي استخرج الورم من تحته قد أصابه التهاب شديد.. ولا بدّ من إخراجه وتعقيمه.. قبل أن يؤدي إلى تسمم في الدماغ!!
استدعى الطبيب فريق العمليات.. ثم حملوني كالجنازة.. وألقوني على سرير في غرفة العمليات..
بدأت أنظر إليهم.. لا أملك من أمري شيئاً.. وكلت أمري إلى الله.. غلبني البكاء فبكيت تمنيت أن أرى أمي وأبي لأقبل أيديهما.. بل والله وألثم أرجلهما.. قبل أن أودع الدنيا.. دعوت الله واستغثت به : ربِّ إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين.. ثم رفعت بصري إلى السماء وقلت : يا أرحم الراحمين.. إن كانت هذه عقوبة فأسأل الله المغفرة والرحمة.. وإن كانت بلاء فارزقني الصبر على البلاء.. وعظم لي الأجر والجزاء.. ثم غلبني البكاء.. فأخذ الممرضون يصيحون بي بلغة أعجمية.. لم أفهم ما يقولون.. لكني كنت أعلم أنهم يصمتونني.. غالبت نفسي.. وتصبرت..
ذكرت هادم اللذات.. وتفكرت في انحلال الملذات ..
طالما سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي..
كلما نصحني الناصحون.. قلت:عن قريب أتوب.. وما تبت..
قد غرّني فيما مضى شبابي.. وجمال سيارتي وثيابي.. ونسيت الاستعداد للحياة الأخرى.. والله لقد عظمت كربتي... وذهبت قوتي.. وغداً يصبح التراب فراشي.. ليتني كنت من قوّام الليل.. الذين أطار ذكر النار عنهم النوم.. وأطال اشتياقهم إلى الجنان الصوم..
فنحلت أجسادهم.. وتغيرت ألوانهم..
تفكرت في الحشر والمعاد.. وتذكرت حين يقوم الأشهاد..
ويلي.. إن في القيامة لحسرات.. وإن في الحشر لزفرات.. وعلى الصراط عثرات.. وعند الميزان عبرات.. والظلم يومئذ ظلمات.. والكتب تحوي أخفى النظرات.. والحسرة العظمى عند عرض السيئات.. فريق في الجنة يرتقون الدرجات.. وفريق في السعير يهبطون الدركات.. وما بيني وبين هذا إلا أن يقال : فلان مات..
وأخشى أن أصيح: ربّ ارجعوني.. فيقال : العمر.. فات..
عجباً للموتى.. جمعوا فما أكلوا الذي جمعوا.. وبنوا مساكنهم فما سكنوا.. تباً لهذه الدنيا.. أولها عناء.. وآخرها فناء.. حلالها حساب.. وحرامها عقاب.. تفكرت في حالي..
فإذا عمري محدود.. ونفسي معدود.. وجسمي بعد الممات مع الدود..
آه.. إذا زلت يوم القيامة القدم.. وارتفع البكاء وطال الندم..
ويلي إذا قدمت على من يحاسبني على الصغير والكبير ..
يوم تزل بالعصاة الأقدام.. وتكثر الآهات والآلام.. وتنقضي اللذات كأنها أحلام.. ثم بكيت.. نعم.. بكيت وتمنيت البقاء في الدنيا.. لا لأجل التمتع بها.. وإنما لأصلح علاقتي بربي جل جلاله..
وفجأة..
أقبل الطبيب نحوي.. فأردت أن أسأله عن المرض.. ولماذا هذه المضاعفات.. فلم يلتفت إليّ.. وإنما أمر بتخديري تخديراً عاماً..
فلما غبت عن الدنيا.. سل سكاكينه ومشارطه..
ثم انتزع فروة الرأس التي تغطي العظم.. وأخرج العظم ووضعه جانباً.. ثم أعاد الجلد فوق الدماغ من غير عظم!!..
استغرقت العملية ساعات.. وبعدها حملوني.. وألقوني على سرير في غرفة ال ( إن عاش) أفقت من إغمائي.. فإذا الأجهزة تحيط بي من كل جانب.. هذا لقياس التنفس.. وهذا لقياس الضغط.. والثالث لضربات القلب.. والرابع.. والممرضون يحيطون بي من كل جانب..
تعجبت من هذه المناظر.. أين أنا.. بقيت واجماً..
ثم تذكرت أني في أمريكا.. وأني قد كنت في غرفة العمليات..
رفعت يدي وتحسست رأسي فإذا هو ليّن.. أين العظم؟!.. بالأمس كان رأسي مكتملاً.. بكيت.. سألت الطبيب : أين بقية رأسي ؟!!
فقال لي بكل برود : عظمك يبقى عندنا لتعقيمه.. وبعد ستة أشهر ترجع إلينا لنعيده مكانه.. مكثت أياماً تحت العناية المركزة.. ثم أخرجت منها..
مكثت في أمريكا شهراً كاملاً... ثم رجعت إلى الرياض ..
وها أنذا أنتظر الأشهر الستة لأستعيد بقية رأسي !!..
ثم سكت عبد الله.. وهو يدافع عبراته.. وحق له أن يبكي..
أما أنا..
فاستمعت منه هذه الكلمات.. وأنا في أشد العجب من تقلب الزمان على أهله.. فبعد ما كان شاباً مفتول العضلات.. بهيّ الوجه.. يتقلب بين المال الوفير.. والوظيفة.. والصحة.. والعائلة المرموقة.. و.. ثم هو الآن على هذا الحال..
فسبحان من يقضي ولا يُقضى عليه..
ما أحقر هذه الدنيا.. حقاً إن الآخرة هي دار القرار..
ومضت الأيام.. وأنا أزوره من حين لآخر..
ومع العلاج منَّ الله عليه فشُفي من الشلل واستطاع المشي..
فانقطعت عنه مدة.. ثم اتصل بي وأخبرني أنه سيسافر إلى أمريكا لاستعادة بقية
رأسه.. وبعد رجوعه جئته زائراً فإذا وجهه متهلل فرح مسرور.. وقد أكمل الله عليه نعمته واستعاد بقية رأسه.. وناولني بطاقة يدعوني فيها إلى زواجه..
أما حال الشاب الآن فهو من الصالحين.. بل من الدعاة إلى الله تعالى.. الذين يخدمون الدين بكل ما يملكون..
إن نظرت إلى المساكين وجدت أنه يكفل عدداً منهم.. يتولى جمع الزكوات وإنفاقها عليهم بل إن له باعاً في تنسيق المحاضرات لبعض الدعاة..
والمساعدة في طباعة الكتب وتوزيعها.. إلى غير ذلك من وجوه الخير.. ﴿ فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً.. ﴾
أسأل الله تعالى لي.. وله.. ولك.. ولجميع المسلمين الثبات على دينه.. آمين.