في مايو 1789 وعلى ظهر أحد الزوارق وصل الرئيس جورج واشنطن إلى نيويورك، كأول رئيس للولايات المتحدة، بينما تمشي وراءه سيدة ممتلئة هي زوجته مارتا التي اعتاد الناس أن يروها معه منذ أيام الثورة الأمريكية.
في أول حفلة أقامتها مسز واشنطن كانت جالسة والسيدات والرجال حولها كأنها ملكة، أما الرئيس واشنطن فهو الذي يقدم الطعام والمشروبات وينتقل بين الضيوف. وبعد نهاية العشاء لم يعرف الناس ماذا يفعلون؟ هل يخرجون قبل أن تخرج هي؟ هل ينتظرونها حتى تخرج هي كما تفعل الملكات؟ ومن الذي سوف يعلن نهاية الحفل؟
يروي أنيس منصور في كتابه "السيدة الأولى" أن المدعوين فوجئوا بمسز واشنطن تقول: السيد الرئيس ينام في التاسعة وأنا قبل ذلك بدقائق.. وخرجت فخرجوا وراءها..!
كان بيت الرئيس الذي استأجره مثل دوار العمدة مفتوحا دائما، وكان من واجبات السيدة الأولى أن تتوازن مع النشاط الاجتماعي للرئيس، فإن كان منطلقا تحفظت هي وإن كان شعبيا تمسكت بالمظهر الملكي في عيون الناس.
طويلة اللسان..!
السيدة أبجيل زوجة الرئيس آدامز فكانت شخصية مختلفة؛ ذكية، حاضرة البديهة، طويلة اللسان موجعة، وكل شيء يحدث لها تكتبه في مذكراتها.. وقد وصفتها إحدى مؤرخات البيت الأبيض: كان لابد أن أذهب وأتحدث إلى جلالتها بعد أن أرتدي بذلة من حديد، خوفا من لسانها السام..!
أما سبب معرفتها لأشياء كثيرة في الدولة، فلأن زوجها يستشيرها في كل شيء، ويطلب مساعدتها في كتابة خطبه، لقد كان يعاملها على أنها وزيرة الدولة.
كان من عادة أبجيل أن تنتقل بين الناس وبين البيوت وفي الحفلات تجمع للرئيس أخبار العاصمة وماذا يقال عنها وعنه. أما متعتها الحقيقية فهي كتابة الخطابات والرد عليها، لقد بعثت بعشرات الألوف من الخطابات في كل شيء ولكل واحد.
أما السيدة "دولي" آدامز فقد استمر زواجها بماديسون أربعين عاما تجري فيها يمينا وشمالا متفانية في خدمة زوجها، ويوم أصبح رئيسا لأمريكا أقامت أولى حفلاتها وجمعت 300 مدعو في غرفة واحدة، وكاد الناس يموتون من شدة الحرارة فحطموا إحدى النوافذ ليدخل الهواء، ووقفوا على المقاعد ليروا السيدة الأولى ماذا ترتدي وماذا تقول ومن الذي تصافحه وتقبله.
كانت دولي حريصة على إرضاء كل الناس، فسمعوها تقول بصوت مرتفع: ولم لا؟ وكان ذلك ردا على من طلب إليها قبلة من شفتيها..!
وكانت شعبية دوللي تستحق حسد العشرات من سيدات البيت الأبيض قبل وبعد ذلك، فهي أول من زار العائلات التي انتقلت حديثا إلى العاصمة واشنطون، وكان ذلك دليلا على تواضعها، ثم استضافتهم في البيت الأبيض.
الأمريكية الحسناء
جاءت بعد ذلك السيدة إليزابيث مونرو وقررت ألا تستغرقها الحفلات والزيارات، وأنها لن تغير عاداتها لأي سبب. وكانت ارستقراطية بنت رجل غني، وهي أيضا أنيقة وعندما ذهبت إلى باريس وصفوها بالأمريكية الحسناء، وظلت جميلة في الرابعة والخمسين عندما أصبح زوجها رئيسا، ولم تستطع أيه أمريكية مهما كانت غنية أن تلحق بها في مجالات الأناقة الباريسية.
وكانت السيدة إليزابيث تقضي معظم الوقت بعيدة عن البيت الأبيض مع بنتيها ، وكانت التقاليد تقضي بألا تدخل البيت الأبيض سيدة أو فتاة في غياب السيدة الأولى. وانتشرت الشائعات عن خلافات حادة بين الرئيس والسيدة الأولى بسبب سفرها الكثير، ولذلك كانت حفلات البيت الأبيض صمتا طويلا وانصرافا مبكرا.
أما السيدة لويزة آدامز فكانت تضيق بالزيارات والحفلات، وكانت تقول: لو سكت النساء بعض الوقت لاسترحت واسترحن جميعا، ولكن نصف وجه المرأة لسانها، ونصف حياتها كلامها وهو نصف متاعبها وكل متاعب زوجها..!
وكانت تقول في نهاية كل حفلة إنني أحرص على أن أودع الناس إلى ما بعد البيت الأبيض لكي أراه بوضوح وأبصق عليه.
نساء قويات
كانت زوجات الرؤساء في السنوات الأولى للجمهورية شخصيات قويات وكن يشاركن في إدارة شئون الحكم من وراء الأبواب.. كانت أبجيل آدامز تقول: أتمنى على الله ولا يكثر على الله: دورة مياه خاصة بي وحدي أدخلها وأخرج في أي وقت أشاء، لا تهمني غرفة النوم في الدرجة الأولى، ولكن يهمني جدا أن أكون وحدي وعلى راحتي في دورة المياه..!
أما السيدة لويزا آدامز فعندما كان زوجها في روسيا سنة 1814 استدعوه لمشاورته في عقد صلح بين روسيا وفرنسا، فبعث بخطاب إلى زوجته يطلب فيه أن تبيع كل أدوات البيت وأن تعود إلى باريس، وكان الشتاء جليديا ولابد أن تمر على مناطق محترقة بل لابد أن تمر بين صفوف القوات المتحاربة.
وكانت تخاف من الخدم المرافقين لها أن يسرقوا مجوهراتها أو يقتلوها، فكانت تقضي الليالي الطويلة دون نوم خوفا من المرافقين ومن الروس.. وعندما دخلت الحدود الفرنسية كان زوجها في انتظارها، وعندما رآها لا مد يده ولا عانقها ولا سألها ماذا فعلت وإنما قال لها: ياه.. أربعون يوما كانت رحلتك.. أربعون؟
ذات يوم تعرضت السيدة مارتا واشنطون لمعاكسة أحد الضيوف في حفلة عامة، فخرجت من الحفل وامتطت جوادها وعادت إلى بيتها ليلا، لكنها قبل أن تعود وقفت وراء أحد الأشجار متوقعة أن يجيء من عاكسها ليعتذر لها، وفي هذه اللحظة قررت أن تنقض عليه بالكرباج.
وأحسن ما قيل على لسان مارتا: طبيعي جدا أن ينصف التاريخ زوجي. لقد اختاره التاريخ ليكون على رأس الأمريكان.. وإذا رأى الأمريكان أن رئيسهم نظيف الملابس فسوف يقولون: طبيعي أن يكون العظيم نظيفا.. ولكنهم لن يذكروا إلا نادرا من هي التي غسلت له ملابسه وقدميه..