صدم الجميع حين سمعوا بالفاجعة المتمثلة بانهيار جسر وادي غزة، والذي أدى الى وقوع قتلى وجرحى جراء هذا الانهيار المريع لجسر يتم اعادة انشائه مرة أخرى.
واستغرب الكثيرون حدوث ذلك مفتشين عن الأسباب، وربما كالعادة، البحث عن كبش فداء يتم محاسبته ثم يستدل الستار ويذهب الجميع لينام كما حدث في حالات سابقة.
قبل أن أبدأ بالحديث في هذا الأمر، أتقدم باسمي وباسم كافة أعضاء مجلس ادارة الاتحاد والهيئة العامة بأحر وأصدق التعازي الممزوج بالألم من أسر الضحايا، داعين بالشفاء العاجل للمصابين.
ان المسؤولية تحتم علينا عدم دفن الرأس في الرمال، بل الخروج عن الصمت لتشخيص جوهر المشكلة وليس نتائجها كما يفعل البعض في تعامله مع قضايا من هذا النوع، اضافة الى استخلاص العبر ووضع الحلول.
ربما تندهشون عن ما أقول بانني لم أستغرب ولم أفاجأ كالآخرين حدوث هذا الانهيار في ظل هذا الترهل واللامبالاة تجاه المنظومة الانشائية بشكل عام حتى بات الوطن حقل للتجارب والارتجالية في هذا المضمار فالمؤسسات المشغلة تعمل كل منها وكأنها حكومة لها سياستها الخاصة في عملية البناء واعادة الاعمار دون تنسيق ما بين الحكومة وبينها، الأمر الذي لا يعفي الحكومة من مسؤوليتها وأخذها زمام المبادرة وفوراً دون التمسك بحجج تكون نتيجتها كالذي حدث وعلمنا عنه، وما أكثر الحوادث التي لم نعلم عنها.
فنحن في اتحاد المقاولين الفلسطينيين تعبنا من المناشدة واعداد أوراق العمل والمؤتمرات التي تنادي بإعادة تأهيل منظومة الانشاءات وتطوير آليات العمل وتوحيد المرجعيات... الخ من القضايا، والجميع من مسؤولين رسميين ومؤسسات دولية ومحلية يغلق أذنيه ولا يريد أن يصدق بأن هناك أزمة بنيوية في هذا القطاع.
ولكم طالبنا المؤسسات المشغلة بإدارة مهنية وتطوير كادرها الغير مؤهل في جزء كبير منه، ولكم ناشدنا بضرورة اعتماد الكفاءة لتجاوز أقل الأسعار كمعيار وحيد للترسية في الغالب، ولكم طالبنا بتطوير العمل الاستشاري البعيد عن المستوى المهني المطلوب حيث أن ما ينسحب على الترسية على الأسعار الأقل لشركات المقاولات ينسحب أيضاً على المكاتب الاستشارية.
لقد قاتلنا بان يكون هناك مرجعية موحدة تضبط وتنظم وتنسق ما بين عناصر هذا القطاع العام وأطلقنا المجلس التنسيقي للإعمار والذي حورب من قبل العديد من المؤسسات الحكومية والدولية والأهلية حتى تستمر كل مؤسسة وفق رؤيتها المشوهة في ادارة أعمالها (كل حزب بما لديهم فرحون)، وها نحن نحصد نتيجة ذلك ابتداءً من اهدار الأموال مروراً بالفوضوية والعشوائية بطرح العطاءات انتهاءً بسقوط الشهداء في ميادين العمل.
صرخنا حتى بح صوتنا ونحن نطالب الدول المانحة والرباعية وو.. بالتدخل للمساهمة في تطوير منظومة الانشاءات، حيث أن الآليات والمعدات والأدوات المتوفرة باتت قديمة وغير صالحة في معظمها للعمل.. قدمنا أوراق العمل وعقدنا مؤتمرات للتنبيه الى خطورة تآكل العمالة الفنية المدربة القادرة على النهوض بعملية الاعمار وطرحنا العديد من المشاريع، ولكن للأسف الاستجابة لم تكن بحجم ما هو مطلوب.
بعد سنوات من العزلة والحصار والحرب، تحدثنا أيضاً حول تأهيل قطاع الانشاءات بشكل مفصل حول نقاط الخلل المتراكمة مطالبين بخطة وطنية شاملة تمولها الدول المانحة لتنفيذ برنامج متكامل يعالج كافة أوجه الخلل ويعوض النقص في كل ما يتعلق بهذا القطاع الاستراتيجي الأهم.
ان سياسات الاحتلال التدميرية وغياب مرجعية موحدة لقطاع الانشاءات وعدم وجود سياسات حكومية منظمة بفعل الانقسام وغياب الوعي (الغير مقصود) لدى المؤسسات المشغلة , تركت الشرخ يزداد والازمة تتعمق، ويأتي الانهيار المفجع ليسقط ورقة التين الجافة ويفضح المستور.. فالمشكلة يجب أن لا تعالج باعتبار هذا الحدث حالة تحتاج لتقييم فني وتحديد المسؤوليات واتخاذ الاجراءات ضد هذا الشخص أو تلك المؤسسة فقط .. فهذا اشبه بمعالجة افرازات جانبية للمشكلة ولا يمكن ان يمنع حدوثها مستقبلا، ولو خرجنا قليلا عن النظرة الجزئية القاصرة وابتعدنا عن الردود العاطفية وتعاملنا بتحليل علمي للمشكلة .. فان المسؤوليات تبدأ من سياسات الاحتلال وخطته الممنهجة لتدمير الاقتصاد الفلسطيني ومنعه من التطور وما تركه الحصار من اثار مدمرة على منظومة الانشاءات والتي فصلناها في ورقة عمل خاصة حول هجرة الخبرات والكوادر الى الخارج والعمل في مهن اخرى وتآكل المعدات والادوات وكذلك الخلل في المؤسسات الرسمية الحكومية, خاصة وان كل وزارة تعمل بشكل مستقل دون التنسيق مع وزارة الاشغال العامة ودائرة العطاءات المركزية مما يضعف مطالبة الحكومة للمؤسسات المشغلة بالتنسيق معها على قاعدة (أولى لك فأولى) و مما افقد وجود ضوابط تسيطر من خلالها الحكومة على كافة تلك المنظومة وبناء الخطط والاستراتيجيات اللازمة لتطوير هذا القطاع وفرض معايير الرقابة الصارمة الموجودة طي الادراج وغير مطبقة على ارض الواقع , فالأمر يحتاج الى حزم وعلى قاعدة درء المفاسد اولى من جلب المنافع , يجب وبحزم وفق ما سبق على كل جهة ترفض التنسيق الكامل قبل طرح أية عطاءات في محافظات الوطن تمنع من العمل حتى لو اضطر الامر الى رحيل المؤسسة التي ترفض ذلك، فأرواح أبنائنا أغلى بكثير من أموالهم المسيسة، تلك المؤسسات التي بات العديد منها يوظف خريجين جدد وبدون خبرة ليتولوا الإشراف على المشاريع عبر أساليب غير مهنية وفاشلة في كثير من الأحيان في ضبط الجودة.
إن الحكومة الممثلة بوزارة الأشغال العامة والإسكان هي المرجعية العليا لهذا القطاع والمسؤول الأول عنه، ومهمتها لا تقتصر فقط على تنفيذ المشاريع، أسوة بالمؤسسات المشغلة والبلديات على عاتقها يقع تطوير هذا القطاع وتأهليه ليكون قادراً على مواكبة العصر وتنفيذ جميع الأعمال الإنشائية بصورة سليمة ومتكاملة، كما عليها مراقبة الجهات الاستشارية والتنفيذية والتأكد من مقدرتها على أداء دورها قبل السماح لها بالعمل، وأن تقف بحزم أمام عشرات المؤسسات التي تطرح المشاريع دون حسيب أو رقيب، الأمر الذي لا يهدر المال فقط ويسمح بالفساد بل وصل إلى حد إزهاق الأرواح.
كذلك غياب دور مؤسسة المواصفات والمقاييس، ودخول مواد وأدوات بناء غير صالحة للاستخدام، ومع احترامنا للمؤسسات المشغلة، فان العديد منها يعتمد على كوادر قليلة الخبرة لا تمتلك القدرة على التخطيط وإدارة المشاريع الغير تقليدية والتي تمارس أيضاً بشكل تدميري سياسة الأرخص، بل أحياناً ترسي العطاءات على المقاولين بأسعار أقل بكثير من التكلفة، ولا تلتفت إلى الكيف في المشاريع النوعية وهذا ينعكس على مستوى الجودة والسلامة تلقائياً.
كما أن المنافسة بين الاستشاريين أيضاً أدى إلى تخفيض أسعارهم مما جعل البعض منهم يعتمد على كوادر جديدة من غير ذوي الخبرة توفيراً للمصاريف، حتى أننا سمعنا عن حالات كثيرة ولمسناها أيضاً، مثل إعطاء أوامر صب غير مكتوبة بل على التلفون أحياناً ودون خرائط تنفيذية، وذلك لعدم قدرة هؤلاء الموظفين على دراستها وإعطاء قرار باعتمادها، بل بعضهم يجهل الأمور الفنية المهمة وتقنيات الإنشاء الحديثة، متمسكاً بالتفاصيل على حساب الأسس والأمور المحورية.. كل ذلك ساهم بتراجع مستوى الإنشاءات.
إن اتحاد المقاولين، ومن باب الحس الوطني قبل المسؤولية المهنية، حاول جاهداً معالجة القضايا أعلاه، بل دخل في صراع مع أعضاءه، واتخذ ضدهم أحياناً إجراءات قاسية بما فيها منعهم من ممارسة المهنة في حال مخالفتهم للنظام والأصول فنياً وإدارياً، وضغط بقوة على الشركات لرفع أداءها ومراقبة سلوكها المهني وإلزامها بتوفير الطواقم الفنية والإدارية المدربة للارتقاء بالمهنة و يعالج بحزم أية شكوى ترد إلينا بخصوص أية مخالفة للمواصفات , ولكن الجهد الكبير الذي يمارسه الاتحاد لوحده لا يكفي في ظل الخلل البنيوي في نظام الإنشاءات بأسره .
أول سؤال خطر في ذهني، بَعد حادثة الجسر، هل مهندس المشروع والمؤسسة المشغلة طلبوا من المقاول مخططات تنفيذية لأعمال التدعيم , وكيف سمحوا له بالصب دون ذلك .. فمن أول نظرة تعرف بان المؤسسة ألغت دورها، وأيضاً كما أسلفنا.. أين الحكومة من ذلك ؟.. رغم معرفتنا الأكيدة برفض هذه المؤسسات التعاون مع الحكومة في غزة بحجة أنها غير شرعية ولكن تعاونهم في القضايا التي تتعلق بالاحتلال من تنسيق وغيره تتم على ما يرام.. هل الاحتلال شرعي ؟ .
ولكنه الأمر الواقع.. واذا سلمنا بذلك، فهل الامر الواقع يفرض عليهم التنسيق مع الاحتلال والاستجابة لمطالبه، ولا يفرض عليهم أن يتعاونوا مع الحكومة والاستجابة لمطالبها، هذه جميعها حجج واهية ومردودة على مروجيها.
مرة أخرى، يجب على الحكومة أن لا تسمح بذلك على قاعدة درء المفاسد أولى من جلب المنافع، وأرواح الناس أمانة في عنقها.
إذا أردنا أن نعالج هذه المشكلة، فعلاجها لا يكمن بالمسكنات، وإنما بالعلاج الجراحي الشامل، وخصوصاً ونحن نواجه متطلبات المرحلة القادمة من إعمار غزة.
فل يُفعل المجلس التنسيقي للإعمار حتى تتوحد الجهود والخبرات للاستفادة بأقصى قدر ممكن من الموارد، بالإضافة إلى المشاركة الجماعية في تحمل المسؤولية، واضعاً الحلول لمعالجة جذور المشكلة، ويتطلب ذلك مجموعة من الإجراءات منها:
1. صياغة إستراتيجية وطنية شاملة تفيد هيكلة قطاع الإنشاءات.
2. وضع خطة شاملة لإعادة تأهيل كافة المؤسسات العاملة بقطاع الإنشاءات سواء الرسمية منها والأهلية والشركات الخاصة.. الخ.
3. الضغط من خلال الرباعية على الجانب الإسرائيلي للسماح بإدخال الآليات والمعدات.
4. الطلب من الحكومة المصرية بشكل رسمي إدخال المعدات والأدوات اللازمة في عملية إعادة الإعمار.
5. تغيير سياسة الترسية على الأسعار الأقل واعتماد نظام جيد للترسية، سواء الأقرب على المتوسط أو الأقرب للتقديرات أو السعر الثاني.. الخ، مستعينين بخبرات بعض الدول في هذا المجال.
6. التركيز على الكيف والكفاءة المهنية للشركات المشاركة في المشاريع النوعية عبر تأهيل، يشارك به الاتحاد.
7. تحديد مرجعية عليا تنظم وتشرف وتراقب كافة المشاريع وخصوصاً النوعية منها.
8. مساعدة اتحاد المقاولين الفلسطينيين في تنفيذ برامجهم لتطوير أداء الشركات فنياً وإدارياً ومالياً.
9. إنشاء مراكز تدريب مهنية متطورة بالإضافة إلى تطوير القائمة حيث العجز الحاد في الفنيين من أهم المشاكل التي يعاني منها قطاع الإنشاءات.
10 إنشاء مكتب وطني لمراقبة الجودة يتبع الحكومة ويتولى الإشراف والتقييم للأداء الفني لكافة مشاريع أثناء التنفيذ.
11. تطوير القوانين والأنظمة المرتبطة بقطاع الإنشاءات.
12. تأهيل الشركات الاستشارية وتصنيفها تحت إشراف لجنة التصنيف الوطنية.
13. قيام الحكومة بتقييم كفاءة الجهاز الفني والإداري المشرف في المؤسسات المشغلة على المشاريع مع تحديد نوعية المشروع الذي يحق للطاقم الإشراف عليه كل حسب قدرته وخبراته.
14. إنشاء شراكات بين العاملين في قطاع الإنشاءات في فلسطين ونظرائهم في الدول العربية للاستفادة من خبراتهم.
15. تطوير أنظمة التصنيف والتأهيل في شركات المقاولات والاستشاريين.
16. إنشاء مواصفات فلسطينية متكاملة ومعايير موحدة سواء للمواد أو المصنعية الداخلة في صناعة الإنشاءات تراعي نوعية المشاريع المطروحة.
17. إلزام المقاولين بعدم تشغيل مقاولين باطن غير مسجلين تحت هذه الصفة بعد إنشاء فرع لهم في اتحاد المقاولين واعتمادهم كمقاولين باطن من لجنة التصنيف الوطنية.
18. تشكيل لجنة وطنية لصياغة حد أدنى لأسعار المصنعية وإلزام الجميع بعدم خفض السعر عنها.
إننا في اتحاد المقاولين نناشد الجميع التحلي بالحس الوطني والمسؤولية لصياغة حلول شاملة والعمل كفريق واحد يمكننا من وقف الخلل في منظومة الإنشاءات وتجهيزها بمعايير متطورة تمكنها من مواجهة متطلبات مرحلة الإعمار القادمة , ونحن نضيف هذا المقترح إلى عشرات المقترحات السابقة التي لا تختلف في مضمونها عما ورد في هذا المقال.
أيمكن أن يسمع المسؤولين صرختنا هذه المرة ,ولا تتطاير مع الرياح، ونجد القطاع في النهاية إنهار كله لدرجة يصعب بعدها إنقاذه
رئيس إتحاد المقاولين في فلسطين