القاعدة السابعة
الأرواح جنود مجندة
الحمد لله رب العالمين،
والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
أما بعد:
فهذه حلقة جديدة من حلقات هذه السلسة المباركة -إن شاء الله- "قواعد نبوية"،
والتي نتأمل فيها شيئاً من معاني تلكم القاعدة النبوية، التي عبّر عنها
قوله صلى الله عليه وسلم:
( الأرواح جنود مجندة ).
هذه القاعدة النبوية هي جزء من حديث أخرجه مسلمٌ في صحيحه
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه،
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
( الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف )
وهو في صحيح البخاري معلقاً من حديث عائشة رضي الله عنها(1).
ومعنى هذه القاعدة ظاهرٌ، وهو التنبيه على حكمةٍ من حكم الله في خلقه،
وهو التشاكل والتماثل في الخير والشر، والصلاح والفساد، وأن الخَيِّرَ من الناس يحن إلى شكله،
والشرير نظير ذلك يميل إلى نظيره، فتعارف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جبلت عليها من خير وشر،
فإذا اتفقت تعارفت، وإذا اختلفت تناكرت(2).
"وقد استقرت حكمة الله- عز وجل- في خلقه وأمره على وقوع التناسب والتآلف بين الأشباه،
وانجذاب الشيء إلى موافقه ومجانسه بالطبع، وهروبه من مخالفه، ونفرته عنه بالطبع،
فسر التمازج والاتصال في العالم العلوي والسفلي، إنما هو التناسب والتشاكل، والتوافق،
وسر التباين والانفصال، إنما هو بعدم التشاكل والتناسب، وعلى ذلك قام الخلق والأمر،
فالمثل إلى مثله مائل، وإليه صائر، والضد عن ضده هارب، وعنه نافر"(3).
ودعونا -أيها الإخوة- ننظر في تطبيق عملي لهذه القاعدة، صار سبباً في تجاوز محنة مرت بأهلها،
وفتنة أظلت أصحابها، تلكم هي قصة أصحاب الكهف ..
فإن هؤلاء الفتية -كما ذكر المؤرخون- لما رأوا ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم؛
عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها؛
لا ينبغي إلا لله الذي خلق السموات والأرض؛ فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه،
وينحاز منهم، ويتبرز عنهم ناحية، فكان أول من جلس منهم وحده أحدهم،
جلس تحت ظل شجرة، فجاء الآخر فجلس عنده، وجاء الآخر فجلس إليهما،
وجاء الآخر فجلس إليهم، وجاء الآخر، وجاء الآخر، وجاء الآخر، ولا يعرف واحد منهم الآخر،
وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان،
قال ابن كثير -رحمه الله- معلقاً على هذا التقارب،
قال: وهذا كما جاء في الحديث:
( الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف )(4).
أيها الإخوة الأكارم:
أما الآيات الدالة على معنى هذه القاعدة النبوية فكثيرة،
ومن أظهرها وأوضحها،
قوله تعالى :
{ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ
وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ }
[النور: 26].
وبمثل هذه الآية والقاعدة النبوية التي نحن بصدد الحديث عنها،
يوقن المؤمن أن الله تعالى لم يختر لنبيه صلى الله عليه وسلم من زوجات،
وأصحاب إلا الطبيات من النساء، والطيبين من الرجال،
إذْ هو صلى الله عليه وسلم سيد الطيبين المطيبين،
فمن زعم أن في زوجاته أو أصحابه من ليس كذلك فقد كذّب الله في خبره،
وكذب رسوله صلى الله عليه وسلم أيضاً.
ومن دلالات القرآن الكريم على هذه القاعدة،
قوله تعالى:
{ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ }
[التكوير: 7]،
وقوله تعالى:
{ احشروا الذين ظلموا وأزواجهم }
[الصافات: 22]
أي أشباههم وأضرابهم، يقول الفاروق رضي الله عنه في تفسير
قوله تعالى:
{ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ }
:"الضرباء كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله،
وذلك أن الله يقول:
{ وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (
وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) }
[الواقعة: ]
قال: هم الضرباء(5).
إن القلوب لأجناد مجنـــــــــــــــــــــــــــدة
لله في الأرض بــــــــــــــالأهواء تختلف
فما تعارف منها فهــــــــــــــــــــو مؤتلف
وما تناكر منها فهــــــــــو مختلف
روي عن مالك -رحمه الله- أنه قال: الناس أشكال كأجناس الطير: الحمام مع الحمام،
والغراب مع الغراب، والبط مع البط، والصعو مع الصعو، وكل إنسان مع شكله، اهـ
"هذا هو منطق الواقع؛ فيما تنطق به الحياة في مختلف البيئات، وفي كل الأزمان،
أن الطيّب لا يقبل إلا طيباً، من قول أو عمل، أو زوج أو صديق،
والخبيث لا يقبل إلا الخبيث، من قول أو عمل، أو زوج أو صاحب"(6)
وذلك: "أن الأجساد التي فيها الأرواح تلتقي في الدنيا فتأتلف وتختلف على حسب
ما جعلت عليه من التشاكل أو التنافر في بدء الخلقة؛ ولذلك ترى البَر الخيّر يحب شكله؛
ويحن إلى قربه؛ وينفر عن ضده، وكذلك الرَّهِق الفاجر يألف شِكله؛
ويستحسن فعله؛ وينحرف عن ضده" (7).
ومن جميل ما روي عن بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لا تسل أحداً عن وده لك،
وانظر ما في نفسك له؛ فإن في نفسه مثل ذلك (
.
"وكتب أبو الدرداء إلى مسلمة بن مخلد، وهو أمير على مصر: أما بعد،
فإن العبد إذا عمل بطاعة الله أحبه الله، فإذا أحبه الله حببه إلى خلقه،
وإذا عمل بمعصية الله أبغضه الله، وإذا أبغضه الله بغضه إلى خلقه.
قال ابن عبدالبر رحمه الله معلقاً:
هذا كلام خرج على العموم، ومعناه الخصوص؛ أي: حبب أهل الطاعة إلى أهل الإيمان،
وبغض إليهم أهل النفاق والعصيان؛
ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم
( القلوب أجناد مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ).(9)
أما إن سألت -أيها الأخ الكريم- عن الأثر العملي لهذه القاعدة في حياتنا؟!
فقد أجاب ابن الجوزي رحمه الله عن هذا، حيث يقول:
"ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صلاح؛
فينبغي أن يبحث عن المقتضي لذلك؛ ليسعى في إزالته، حتى يتخلص من الوصف المذموم،
وكذلك القول في عكسه"(10)اهـ.
"وعلماء التربية والأخلاق يعدون الصحبة والمعاشرة ركناً من أركان اقتباس
كل من الصاحبين من الآخر؛ فيحثون على صحبة الأخيار، ويحذرون من صحبة الأشرار،
كما قال الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينــــــــه
فكل قــــــــــــــــــــــرين بالمقارن يقتدي
وقــــــــــــــــــــــــــــال آخر:
وقائــــــــــــــــــــــــــل كــيف تفارقــتما
فقلتُ قولاً فيــــــــــــــــــــه إنصاف
لم يك من شكلي فــفارقتــــــــــــــــه
والناس أشكـــــــــــــال وآلاف".(11)
وقيــــــــــــــــــــــــــــــل:
"وَلَا يصحب الْإِنْسَـــــــــــــــــانُ إِلَّا نَظِيره
وَإِن لم يَكُونُوا من قبيـــــــــــــل وَلَا بلد
وَقيل: الْأَخ نسيب الْجِسْم، وَالصديق نسيب الرّوح،
وَقيل: انْظُر من تصاحب؛ فقلّ نواة طرحت مَعَ حَصَاة إلَا أشبهتها" (12)
اللهم ارزقنا إخوة فيك يدلونا على الخير، ويوصوننا بالحق والصبر،
وجنبنا وأهلنا وأولادنا رفقاء الشر والفساد.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد،
وعلى آله وصحبه أجمعين.
وإلى لقاء جديد في حلقة قادمة إن شاء الله،
أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
_____________________
(1)صحيح مسلم (2638) ، وينظر: البخاري (3336).
(2)فتح الباري لابن حجر (6/369).
(3)الطب النبوي لابن القيم (1 / 202).
(4)تفسير ابن كثير: (5/ 140) بتصرف يسير.
(5)تفسير الطبري (24 / 142).
(6)التفسير القرآني للقرآن: (9/ 1258).
(7)معالم السنن: (4/ 115).
(
الاستذكار: (8/ 450).
(9)التمهيد: (21/ 240).
(10)فتح الباري: (6/ 370).