.
شرع الله عز وجل العبادات تهذيبا لسلوكنا وارتقاء بأخلاقنا؛ فهو أغنى الأغنياء عن عبادتنا، وهو القائل -عز وجل- على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: "يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئا، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا" (صحيح مسلم)..
فالعبادة شرعت لمصلحة العباد؛ فإن فطنوا إلى أسرارها، وخلصوا إلى مقاصدها سمَتْ بهم في الدنيا والآخرة، وإن تعلقوا بحرفيتها، وأقاموا أركانها، ولم تزكُ بها نفوسهم، وترقَ بها أخلاقهم.. فقد يسقط عنهم الفرض، لكن لن يرتفع لهم شأن في الدنيا والآخرة.
وقد وضع الله -عز وجل- من الأسرار والحكم والمقاصد في العبادات المتكررة ما يحفظ للإنسان سلوكه وخلقه حتى يأتي وقت أدائها مرة أخرى؛ فالصلاة إذا تدبرها ووعاها المسلم حق وعيها؛ فهي تحفظه بعون الله حتى تأتي الصلاة الأخرى، والزكاة كفيلة بأن تطهر نفسه من الشح والبخل حتى يأتي موعد أدائها مرة أخرى، والصيام يشحن المسلم بطاقة نورانية توصله إلى رمضان التالي. أما مع الحج فالأمر مختلف؛ فلقد فرضه الله مرة واحدة على المسلم المستطيع في العمر إلا أن يتطوع؛ فنحسب أن الله وضع فيه من الأسرار والحكم والدروس والعبر ما يكفي المسلم طوال عمره إن أحسن الاستفادة من هذه الدروس ووعى تلك المقاصد، وفطن إلى هذه الأسرار.
وسنحاول في السطور التالية التعرض لبعض هذه الأسرار، والالتفات لتلكم الحكم بحسب الوسع والطاقة والمقام.
النفقة الحلال أول الطريق
إذا فكر الإنسان في الحج ونوى أداء الفريضة فهو مأمور بشيئين:
أما الأول فهو إعداد الزاد والراحلة، وإعداد نفقات السفر، وتوفير نفقات أهله حتى لا يتركهم عالة يتكففون الناس من بعده؛ فقد روى البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه عنهما قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله تعالى {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} (صحيح البخاري).
فالمؤمن مأمور بالسعي وطلب الرزق والسعي من أجل تحصيله، وبذل كل الأسباب المباحة في الحصول عليه "فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف" (صحيح مسلم)، و"واليد العليا خير من اليد السفلي" (صحيح البخاري)؛ فمن هذا المال يدفع الزكاة، ومنه يحج ويعتمر، ومنه يساهم في حل مشكلات المجتمع..
كما أنه مأمور أيضا بتحري النفقة الحلال "... إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم}، وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم}، ثم ذكر الرجلَ يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام.. فأنى يستجاب لذلك" (صحيح مسلم).
ويأتي الحج فيحيي في النفس هذا السلوك الطيب، وهو السعي في هذه الدنيا وعمارتها، شريطة أن يكون هذا السعي منضبطا بالشرع، متحريا للحلال مجتنبا الحرام، ومبتعدا عن الشبهات.
التربية على ترك الحرام
فإذا تحققت الاستطاعة وعزم المسلم أمره، وأخلص نيته، وشرع في الحج؛ فإن أول ما يفعله في هذه الرحلة الاغتسال والتطيب ولبس ملابس الإحرام، هذه الملابس البيضاء التي لا زخرفة فيها ولا زينة؛ فهي أشبه بما يلبسه المسلم حين وفاته من هذا الثوب الزهيد الرخيص، وعلى المسلم أن يجدد التوبة، ويتخلص من حقوق العباد قبل أن يشرع في هذه الرحلة التي يرجو أن يعود منها وقد غسلت ذنوبه ومُحيت خطاياه ورجع منها كيوم ولدت أمه.
ومن ساعة لبسه هذه الملابس تحرم عليها أشياء كثيرة مما أحله الله قبل إحرامه؛ فيحرم عليه التطيب ولبس المخيط والمحيط، وحلق الشعر وتقليم الأظافر وعقد النكاح، ومداعبة أهله أو معاشرتهم وغير ذلك من محظورات الإحرام، وهذا التحريم المؤقت تعويد للمسلم على ترك الحرام الذي حرمه الله من حيث الأصل تحريما مؤبدا لا يزول إلا في حالة الضرورة التي تقدر بقدرها، فإذا قويت إرادة المسلم وضبط شهوته وحركته فلم يفعل الشيء المباح الذي اعتاد على فعله طاعة لله عز وجل لأنه حرمه في هذا الوقت؛ فإن إرادته ستكون أقوى، وعزيمته ستكون أشد إذا تعلق الأمر بالحرام.
الأهل وديعة الله
ولا ينس الحاج عند بداية هذه الرحلة أن يودع أهله وصحبه قائلا لهم كما علمنا المعصوم -صلى الله عليه وسلم- "أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه" (سنن ابن ماجه)، فيردون عليه "نستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك" (سنن ابن ماجه)، ثم يردد بلسانه ويعقل بقلبه هذا الدعاء الجميل الطيب "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون. اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا، واطوِ عنا بُعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل. اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل" (صحيح مسلم).
فقد استودع اللهَ أهله؛ فلم يكلهم إلى قريب أو بعيد أو حبيب أو شقيق، لكنه استودعهم الله؛ فهو حقا لن تضيع ودائعه، وقد استودعوا الله دينه وأمانته وخواتيم أعماله، وهو أغلى وأثمن ما يملكه المسلم في هذه الدنيا، وقد استودعوها عند من لا تضيع ودائعه، ثم يلهج قلبه قبل لسانه بهذا الذكر؛ فيحمد الله أن سخر له دابة تحمله حتى يقضي هذه الفريضة، ويسأل الله أن يهون عليه سفره ويجنبه وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل والولد.
لعمري إنها لكلمات رقيقة وأذكار دقيقة فيها من الأسرار والحكم الكثير لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
آداب الهجرة إلى الله
وعلى المسلم استشعار أنه قادم إلى الله مهاجر إليه، ترك شواغل الدنيا ومتعها ولذاتها طلبا لرحمة الله تعالى {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (النساء: 100).
والمسلم الذي يخرج بهذه النية يستشعر قول الله تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (البقرة: 197).
فإن كان ثمة رفث أو فسوق أو جدال فعلى المسلم أن يراجع نفسه ويصلح نيته ويعلم أنه لا يسير في الطريق الصحيح.
ولا يمكن لمسلم يسير بهذه النية أن يجهل على أحد أو يسب أحدا أو يؤذي أحدا حتى ولو كان من أجل إتمام المناسك؛ فما جعل الله علينا في الدين من حرج.
إن الذين يزاحمون على تقبيل الحجر أو التعلق بأستار الكعبة أو التزاحم في رمي الجمرات إلى الحد الذي يقتل المسلم فيه أخاه، ولا يعرف حرمة شيخ كبير ولا امرأة عجوز ولا مسلم مريض هؤلاء جميعا كان جلوسهم في بيوتهم خيرا لهم وللمسلمين، ولن يعودوا إلا بأحمال من الذنوب تثقل كاهلهم؛ فإن حقوق العبادة مبنية على المشاحاة، وإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يطوف بالكعبة ويقول "ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك؛ ماله ودمه وأن نظن به إلا خيرا" (سنن ابن ماجه)؛ فلو أن مسلما سولت له نفسه، وأغراه شيطانه، وذهب في موسم الحج أو العمرة ليهدم بيت الله، أو يتلف ستائره؛ فإن الناس جميعا سيحكمون بكفره أو ذهاب عقله، وأشد منه حرمة وأعظم جرما من تعمد إيذاء المسلمين إلى الحد الذي يودي بحياتهم ويزهق أنفسهم.
إن المسلمين بحاجة ماسة إلى تربية في هذا الجانب، بحاجة لمن يغرس فيهم خلق الرحمة والحب في الله ولين الجانب والذلة للمؤمن {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} (المائدة: 54). {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} (الحجرات: 29).
إنهم يتزاحمون عند المناسك كما يتزاحمون في هذه الدنيا على متاعها الزائل وزينتها التافهة، وكما يصعد بعضهم على أكتاف بعض، ويتصارعون على الدنيا تصارع الذئاب يحسبون أن ما عند الله يُنال بهذا التصارع والتناحر ورحمة الله قريب من المحسنين، وقد تشمل مؤمنا احترم آدمية الناس، وحرص على حياتهم، وأخذ من المناسك الحد الأدنى الذي يصح به حجه، وقد تتنزل لعائن الله على مسلم متعلق بأستار الكعبة، أو يقبل الحجر الأسود، وقد وصل إليه على أشلاء الناس، وخلف بسبب طيشه ورعونته مسلما قتيلا وآخر جريحا يلقى الله بدمه يوم القيامة؛ فلا يغفره حج ولا تمحوها عمرة.
اختيار أمير للركب وطاعته
يعلمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- اختيار أمير للركب "إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمِّروا أحدهم" (سنن أبي).
فليحسنوا اختيار هذا الأمير؛ بحيث يكون عالما بأمور الدين، حصيفا، عاقلا، يسهر على راحتهم، ويخلص في نصحهم، وعليهم بالسمع والطاعة؛ فلا إمارة بغير سمع ولا طاعة، ولو خرج الحجاج والمعتمرون في صحبة أمراء عقلاء عالمين بفقه الحج ومقاصده، وقادوا هذه الأفواج بنظام وروية؛ لأمكن تنظيم هذا الحج، ولعصمت هذه الدماء التي تسيل كل موسم حج؛ فكل بلد يخرج أميرا ومسئولا عن بعثة الحج، وليكن له مساعدون يختارهم هو أيضا بعناية لتفقيه المسلمين والاهتمام بهم صحيا وروحيا وسلوكيا، لو فُعل هذا لسهُل على المسلمين أداء مناسكهم، ولتمت هذه الفريضة بغير خسارة هذه الأنفس، لكن الذي يحدث أن هذه الملايين لا يربطهم رابط، ولا يسوسهم سائس -كما هو حالهم في حياتهم كلها- وإن كان ثمة مسئول عن بعثة الحج فهو في الغالب لا يخلص في نصيحتهم، ولا السهر على راحتهم؛ حيث إنه يؤدي وظيفة دون شعور بتبعة المسئولية، أو يخرج للمتعة فلا ينشغل بما معه إلا قليلا.
"لبيك اللهم لبيك"
وأول ما يفعله المسلم بعد أن يلبس ملابس الإحرام هو التلبية، وتكثر هذه التلبية كلما اقترب من البيت "لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".
إنها لكلمات عذبة رقيقة تصف حال هذا القادم إلى الله المقبل على طاعته، ترك ماله وأهله، ترك هذه الدنيا ومتاعها وهاجر إلى الله أشعث أغبر، ملبيًا نداء الله، مصدقًا نبوة هذا النبي الكريم الخليل إبراهيم عليه السلام الذي أمره الله أن يؤذن في الناس بالحج، فأذن بصوته الضعيف الذي لا يسمع من حوله، فإذا بهذه الدعوة تلمس شغاف القلوب، وتستقر في الأفئدة؛ فلا يبقى مسلم إلا وتهفو نفسه لأداء هذه الفريضة على الرغم من مشقتها، ويتمنى مَن أدّاها لو كررها ما دام حيا.
ذكريات عند رؤية الكعبة
وعند رؤية الكعبة يدعو المسلم بهذا الدعاء المأثور "اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة، وزد مَن شرّفه وكرّمه ممن حجه أو اعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا"، كما يستشعر الحاج جهاد إبراهيم عليه السلام وتضحيته بأعز ما يملك حتى يعمر هذا البلد الذي لا زرع فيه ولا ضرع ولا أنيس فيه ولا جليس {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 37). ) ثم يذكر بناءه هذا البيت مع ولده إسماعيل عليهما السلام {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (البقرة: 127-129).
ثم يذكر جهاد النبي -صلى الله عليه وسلم- من أجل أن يطهّر هذا البيت من رجس الأوثان، إلى طهارة الإيمان، وكم لاقى -صلى الله عليه وسلم- هو وصحبه الكرام من أجل أن يطهر البيت وما حوله من دنس الجاهلية ويعيده إلى رحاب الإيمان.
طاعة الطواف بالبيت
وأثناء الطواف يعلم أنه في عبادة الله، وأن طوافه بالبيت كالصلاة، غير أن الله قد أباح الكلام فيه؛ فلا يتكلم إلا بخير، فالطواف كالصلاة، فليعلم أنه بين يدي الله في أفضل بقعة من بقاع الأرض، ومن كان هذا حاله لا يجهل على أحد، ولا يزاحم ليؤذي الناس، ولا ينشغل قلبه إلا بالله عز وجل.
تقبيل الحجر والعبودية
وعندما يستلم الحجر أو يقبله أو يشير إليه يذكر عهده مع الله فلا يخلفه، ويوثق بيعته فلا يتحلل منها، ويقوم بمسئوليته تجاه هذا الدين فلا يتقاعس عنه، ويحذر من نكث العهد الذي أخذه على نفسه أن يعيش بهذا الدين، وأن يموت في سبيله، وأن يضحي من أجله بكل رخيص وغال.
ثم يذكر عند استلام الحجر وتقبيله تمام العبودية لله والخضوع لأوامره، والسمع والطاعة حتى لو لم تدرك عقولنا حكمة التشريع، ويردد ما ردده عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما فعلت".
ماء زمزم الذكرى والدعاء
ثم يشرب من ماء زمزم بعد الفراغ من الطواف، وماء زمزم لما شرب له؛ فيشرب ويدعو لنفسه وأهله وإخوانه، وليذكر أثناء شربه هذه السيدة المؤمنة المحتسبة التي عانت ورضيعها من شدة العطش وقسوته حتى فرج الله عنهما الغم ورفع عنهما الكرب، وأجرى لهما هذه العين التي لا ينتهي خيرها، ولا ينفد ماؤها، يشرب منه الملايين طول العام، وتظل هكذا شاهدا على جهاد أم إسماعيل وولدها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
السعي والثقة والتوكل
ثم يسعى بين الصفا والمروة، ويذكر مرة أخرى أم إسماعيل وجهادها وسعيها؛ هذه المرأة التي أعطتنا في هذا الموقف وحده درسين غاية في الأهمية؛ أما الأول فهو الثقة فيما عند الله، فعندما علمت من إبراهيم عليه السلام أنه وضعهما هنا بأمر الله قالت "إذن لن يضيعنا"، ولو جلست هذه المرأة حتى يأتيها الفرج ما لامها أحد؛ فكيف تسعى في هذه الصحراء الجرداء التي لا زرع فيها ولا ماء؟ وعن أي شيء تبحث في هذه الفيافي المقفرة والجبال الموحشة؟ لكنها سعت، ولم تسعَ مرة أو مرتين، لكنها سعت سبعة أشواط يتعب فيها الحاج بعد أن مُهدّت الأرض، وطُوعت للسير كثيرا عن حالها التي كانت عليه. فحققت المعادلة الصعبة على كثير من المسلمين اليوم، حققت أقصى درجة من درجات التوكل على الله والثقة فيما عنده، والاعتماد عليه، وكذلك الأخذ بالأسباب من باب التعبد حتى ولو بدا لنا أن هذه الأسباب لن توصلنا إلى المراد، لكننا نأخذ بها ونحسنها ونتقنها ثم تكون الثقة التي يعرف من خلالها المسلم أنه مهما بذل وسعى فلن يكون إلا ما كتبه الله له أو عليه.
في رحاب البيت وما حوله
ثم يعيش في مكة وينعم بالصلاة فيه ويكثر من هذه الصلاة؛ فالصلاة بمائة ألف صلاة (سنن ابن ماجه)، وهو أول المساجد التي تشد لها الرحال، ويجول بخاطره عبر التاريخ، ويرجع بالذاكرة إلى الوراء فيغمض عينه ليرى النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحبه، وقد عاشوا على هذا التراب الطاهر، وصلوا في هذا المسجد المقدس، وظُُلِموا وأوذوا حتى أتاهم نصر الله؛ فيملأ عينه من البيت الحرام، ويتخيل أصحابه وهم حوله لا يستطيعون الصلاة فيه صلاة آمنة والأوثان من حوله، ثم يرى تغير الحال بعد الأخذ بالأسباب وجهاد النبي وصحبه، يذكر الشقاء الذي عاش فيه أهل مكة قبل أن يشرفهم الله ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا يعيشون في ظلمات بعضها فوق، سواء في الحياة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية وغيرها، ثم يرى هذه الألوف المؤلفة التي تطوف بالبيت، ساعية ملبية موحدة استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام، وثمرة من ثمار جهاد النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام.
اجتماع المسلمين في عرفة
ثم يأتي الوقوف بعرفة الذي لا يصح الحج بدونه فـ"الحج عرفة" (سنن الترمذي)، ويستشعر المسلمون قيمة الوحدة والترابط؛ فهم أجناس متعددة، ولغات متنوعة، وطبائع وعادات وتقاليد مختلفة، لكنهم اجتمعوا يلبون في زي واحد وبلغة واحدة: لبيك اللهم، لبيك لبيك، لا شريك لك لبيك..
فهل يعي المسلمون الدرس، ويفطنون إلى هذه الحكمة البالغة، وأن اجتماعهم في هذا اليوم وفي هذا المكان ليس اجتماعا مؤقتا، ولا شيئا عابرا، لكنه اجتماع دائم، وتواصل مستمر؛ فما يجمعهم كثير؛ فهم يدينون بدين واحد، ويعبدون إلها واحدا، ويتبعون نبيا واحدا، يتجهون إلى قبلة واحدة، ويصومون في شهر واحد، ويحجون في وقت واحد.
إن الناس من حولنا صارت لهم تكتلات سياسية، ومعاهدات اقتصادية، وروابط اجتماعية، وهم في الحقيقة لا يربطهم رابط إلا رابط المصلحة والحرص على الحياة، في زمن يحكمه قانون الغاب أو أشد، يأكل القوي الضعيف، والغني الفقير، والعزيز الذليل؛ فأصبحنا نسمع عن الولايات المتحدة، والاتحاد الأوربي وغير ذلك من التكتلات، ولم نسمع عن اتحاد إسلامي، يكون في قوة هذه الاتحادات، إنما نسمع عن أسماء، ولا نرى حقائق، "نسمع جعجعة ولا نرى طِحنا"؛ بل هي أمة ممزقة سياسية، مبعثرة اقتصاديا، لا تتفق على شيء إلا الركوع والخضوع تحت أقدام المحتل الذي كلما بالغ في إذلالنا بالغنا في الركوع والخنوع؛ فليت شعري متى نفيق من غفلتنا؟ ومتى نصحو من نومنا؟ ومتى نحسن الاستفادة من شعائرنا وتعاليم ديننا؟!
رمي الجمرات ودحر الشيطان
ثم يأتي رمي الجمرات، والجمرات عبارة عن مجموعة أحجار صغيرة نرجم بها أحجارا كبيرة؛ فقد أمرنا أن نقبل الحجر الأسود؛ إذ هو يمين الله في الأرض، وأمرنا أن نقذف حجرا هو رمز للشيطان بحجر فسمعنا وأطعنا، وفي ذلك كمال العبودية لله وتمام الخضوع له، ولكن قذف هذه الأحجار ليس هو كل شيء، لكنها ثورة واستعلاء على الشيطان وما يوسوسه لنا في حياتنا كلها؛ فهل ستكون ثورة مستمرة دائمة؟ هل سنعلن تمردنا عليه وعصياننا له في أشهر الحج وبعده، أم أننا نصرعه في جولة ثم يعود فيصرعنا في جولات؟ إن الشيطان يكون أغيظ ما يكون في هذه المواقف، لكنه لن ينسحب من معركة واحدة حتى ولو خسرها، لكنه سرعان ما يعود أشد بأسا، وأكثر حنقا، وأعظم مكرا حتى يمحو عار الهزيمة، وربما يأتي المسلمَ وهو ما يزال في موسم الحج، وما نراه من جهل بعض المسلمين على بعض، ومن قسوتهم وغلظتهم وخشونة معاملاتهم لبعضهم وهم ما زالوا في أداء المناسك إلا جولات وصولات للشيطان، يكر عليهم فيفسد حجهم، ويرد لهم الصاع صاعين، والضربة ضربات؛ حتى يبدل هزيمته نصرا؛ فهل نعي الدرس، ونعلن العداء والاستعلاء، أم أنها لحظات سرعان ما تزول، ثم نعود للشيطان يلعب بعقولنا وسلوكنا وأخلاقنا كيف يشاء؟
إن رمي الجمرات يذكرنا مرة أخرى بموقف هذه الأسرة المسلمة المستسلمة لأمر الله؛ حيث أُمِر إبراهيم الخليل بذبح ولده فلذة الكبد وثمرة الفؤاد، فسمع وأطاع، ولما أتاه الشيطان رجمه، فذهب إلى الولد فرجمه، ثم ذهب إلى الأم فرجمته (ذرية بعضها من بعض)، وهذا لعمري هو الرجم الحقيقي الذي ينبع من القلب قبل أن تفعله الجوارح.
نحر الهدي وذبح الشهوات
ثم تأتي بعد ذلك شعيرة النحر متأسين بنبي الله إبراهيم عليه السلام الذي أراد أن يضحي بأغلى ما يملك وهو ولده البار الصالح الذي رزقه على كبر، وهي تضحية عزيزة نادرة، فاستسلم لأمر الله، وذبح حظ نفسه وقتل شهوته وتعلقه بولده. وأعجب منه موقف الولد نفسه؛ فقد تلقى أمر الله بذبحه بنفس راضية، وقلب مستسلم خاضع؛ فمنذ سنوات أمره الله بوضعه هو وأمه في هذه الصحراء الموحشة، وتلك الفيافي المهلكة، وهاهو اليوم يأمره بذبحه فيستجيب الولد والوالد، وترضى الأم الصابرة المحتسبة، وهَمَّ بذبح ولده لولا رحمة الله به وفداؤه بذبح عظيم.
} فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ *فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ *} سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} (الصافات 102 – 111).
وصارت سنة لنا جميعا، وواجبا على بعض الحجاج يوم النحر إحياء لهذا الصنيع المبارك، وتخليدا لذكرى هذه الأسرة المؤمنة الصابرة المحتسبة المضحية بأغلى وأعز ما تملك؛ فلا عجب أن تصير المناسك كلها أو جلها تخليدا لذكرهم العطر وإحياء لسيرتهم المشرفة.
فليذبح الحاج شهوات نفسه، ولينحر هفواتها قبل أن ينحر الهدي، وليكن هذا الهدي وسيلة لتحقيق التقوى، وتهذيب النفس {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} (الحج: 37).
الحلق والخروج من الزينة
ثم يحلق الحاج أو يقصر قبل أن يتحلل من حجه، والحلق أو التقصير خروج مما بقي من زينة هذه الحياة الدنيا، وبداية للتحلل من الحج؛ فيعود بعض ما حرمه الله في وقت الحج حلالا فيلبس الحاج المخيط ويتطيب وغير ذلك مما يحل له في التحلل الأول، لكن لا بد أن يبقى الدرس عالقا في الأذهان مستقرا في القلوب حتى آخر لحظة من لحظات عمره.
زيارة الحبيب الذكرى والجميل
ـ ثم يتوجه المسلم بعد ذلك لزيارة الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو السبب في هذا الخير كله الذي لولاه بعد فضل الله علينا لكنا نعبد وثنا، أو حجرا أو بشرا. فيسلم عليه وعلى صحبه، ويستشعر جهادهم وبذلهم من أجل أن تصلنا دعوة الله نقية بغير غبش، صافية بغير دخن، ليلها كنهارها لا يزيع عنها إلا ضال، يسترجع وهو في المدينة سيرة النبي -صلى الله عيه وسلم- وجهاده وغزواته، يملأ عينه من المسجد الذي ربى فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- صحبه الكرام، وانطلقت منه الغزوات والفتوح الإسلامية لتملأ الأرض عدلا وبرا وطهرا بعد أن مُلئت جورا ورجسا، ثم يرنو ببصره إلى البقيع، فيسلم على أصحاب النبي الكرام الذي آمنوا معه وجاهدوا معه وصبروا وصابروا وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، فما وهنوا، وما ضعفوا، وما استكانوا، وما بدلوا، ولا غيروا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله على أيديهم البلاد، وطهر بسبب جهادهم الفساد.
يسير في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم متلمسا خطواته التي كان يخطوها، وأماكنه التي كان يجلس فيها، ثم يذهب لزيارة أبطال أحد الذين قتلوا في بداية الجهاد مع المشركين دون أن يروا شيئا من ثمرة كفاحهم، ولا ينالوا شيئا بسبب جهدهم وجهادهم، فيسلم عليهم، ويدعو لهم؛ فقد ضحوا، وبذلوا، وصدقوا، ووفوا، رضي الله عنهم ورضوا عنه.
حج إلى الأبد!!
ثم يرجع الحاج إلى موطنه وقد غُفر ذنبه -إن شاء الله- وعاد من ذنوبه كيوم ولدته أمه؛ فهل يخلد إلى الراحة أو يبدأ مرحلة أخرى من التقصير والتفريط في جنب الله، إن وصول المسلم إلى هذا المستوى الإيماني من الطاعة أمر ميسور، لكن الصعوبة في المحافظة عليه والثبات على هذا المستوى الإيماني حتى يتوفاه الله عليه؛ ولذلك يأتي الإرشاد القرآني {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ * وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، ومن قبل قال لنبيه ومصطفاه: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (الشرح 7 –
، فكلما انتهى المسلم من عبادة شرع في عبادة أخرى حتى يتوفاه الله على الإسلام ويقبضه على الإيمان {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (البقرة: 102).
ومن أراد أن يموت على الإسلام فليكن في حياته كلها مسلما.
الحج من جديد
وأخيرا تبدأ مرحلة أخرى يستكشف فيه المسلم مدى توفيقه في أداء هذه الفريضة وما استفاده منها، وهل قبلها الله منه أم لا؛ فمن علامات القبول الاستمرار في الطاعة والمحافظة عليها، فإذا عاد الحاج فخالط الأولاد والأهل وخالط الناس وفيهم الصالح والطالح والبر والفاجر، وباع واشترى وأخذ وأعطى.. يتبين حال نفسه، وهل ثمة فارق بين تصرفاته وسلوكه قبل سفره أم أن الأمر لا يعدو أن يكون حلما جميلا سرعان ما انقضى وتبخر مع الزمن، وعاد إلى ذنوبه وعاداته، لم يتغير منه شيء، ولم ينل من حجه إلا السفر والتعب وفراق الأهل وضياع المال، فعاد إليه الشيطان يرجمه ويركله، ويلهو به ويلعب؛ انتقاما من جولة واحدة انتصر فيه على الشيطان فأضعفه، لكن الشيطان عاد فاستقوى عليه، فبدد منه لذة الطاعة، وضيع عليه ثواب هذه الرحلة المباركة.